قام بتأليف هذا الكتاب الباحث تيودور ك. راب المختص بعصر النهضة الأوروبية. وفيه يقدم لنا صورة دقيقة عن الفترة الاخيرة من هذا العصر المجيد وكيف انها قطعت بنا، وبالبشرية الأوروبية خطوات واسعة نحو الحداثة. ومنذ البداية يقول المؤلف بما معناه:
ان مفهوم عصر النهضة في معناه الأولي يبين تلك الحركة الثقافية التي ظهرت في ايطاليا بداية القرن الرابع عشر قبل ان تنتشر في كل انحاء أوروبا في نهايات هذا القرن بالذات. ويرى البعض أن عصر النهضة يتوسط بين العصور الوسطى المسيحية والعصور الحديثة العلمانية والفلسفية. وبالتالي فهو يقف بين بين.
ولكن ينبغي الاعتراف بان مفكري عصر النهضة كانوا حاقدين على العصور الوسطى المسيحية لانها قضت على الفلسفة الاغريقية فأصبحت بربرية، ظلامية. والواقع ان هؤلاء المفكرين كانوا يشعرون بانهم يولدون من جديد بعد أن خرجوا من ظلاميات الكهنة المسيحيين واكتشفوا آداب الاغريق والرومان وفلسفتهم. وهي آداب كانت القرون الوسطى قد طمستها كلياً تقريباً بحجة انها وثنية، مادية إلحادية.
وربما كان بترارك اول مفكر وكاتب نهضوي (1304 ـ 1374). ومعلوم ان كان منفتحاً على آداب الاغريق والرومان كل الانفتاح. ولكنه في ذات الوقت كان مشدوداً إلى المسيحية، عقيدة آبائه وأجداده. وبالتالي فقلبه كان مع الدين وعقله مع الفلسفة اذا جاز التعبير.
ثم يردف المؤلف قائلاً: وعندئذ ظهر مصطلح الدراسات الإنسانية معارضة لها بالدراسات اللاهوتية. والدينية المسيحية. وكان المقصود بها الدراسات المتركزة على كبار أدباء وشعراء وفلاسفة العصور القديمة السابقة على المسيحة: كهوميروس، وافلاطون، وارسطو، وفرجيل، وشيشرون وعشرات غيرهم.
وبقدر ما كانت العصور الوسطى تهملهم لانهم وثنيون راح مفكرو عصر النهضة يهتمون بهم ويجعلون من عملية اكتشافهم ودراستهم اكبر رسالة لهم في الحياة. ولذلك شعر فلاسفة عصر النهضة بأنهم يعيشون مرحلة جديدة من التاريخ.
وقد عبر عن ذلك أحسن تعبير مارسيل فيشان عندما قال: أشعر بأني أعيش عصراً ذهبياً أعاد الفنون الليبرالية إلى النور: أي علم الفصاحة والنحو، وفن الرسم والنحت، وفن العمارة، والموسيقى ومعلوم ان مارسيل فيشان كان من كبار فلاسفة عصر النهضة (1433 ـ 1499) ومن أكبر المعجبين بافلاطون. وقد أسس المدرسة الافلاطونية في ايطاليا أثناء عصر النهضة.
اما الكاتب الفرنسي رابليه (1483 ـ 553) فكان من كبار مفكري عصر النهضة في فرنسا. وقد تحدث عن اقتضاء الكائن بين ظلمات العصور الوسطى والعصر الجديد المليء بالأنوار: أي عصر النهضة ثم سادت هذه الصورة البشعة عن العصور الوسطى في الكتب المدرسية منذ القرن التاسع عشر وفي أمد قريب في كل انحاء أوروبا بل وحتى في العالم العربي.
ولكن بعض المؤرخين احتجوا مؤخراً على هذه النظرة التبسيطية للأمور. وقالوا بما معناه: لا يمكن الزعم بان العصور الوسطى كانت ظلامية كلها. فالواقع انه وجد آنذاك بعض المفكرين الكبار. المستنيرين بضوء العقل. واكبر دليل على ذلك فلاسفة العرب من أمثال الكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن الطفيل، وبن رشد، وابن باجة، وابن عربي، والعربي، وابي بكر الرازي، الخ.. وكلهم عاشوا في العصور الوسطى بحسب التقسيم الأوروبي لتاريخ الفكر.
ومعلوم ان هذا التقسيم يتحدث عن ثلاثة عصور أساسية: العصور القديمة اليونانية الرومانية (القرن الخامس قبل الميلاد وحتى القرن الخامس بعد الميلاد). العصور الوسطى من عام 500 ميلادية إلى عام 1500 تقريباً. العصور الحديثة من عام 1500 وحتى اليوم.
وبما ان كل فلاسفة العرب المذكورين عاشوا قبل عام 1500 بل و حتى قبل عام 1200 فإن هذا يعني انهم كلهم ينتمون إلى مرحلة العصور الوسطى. فهل يمكن القول بأنهم كانوا ظلاميين متخلفين او متعصبين كما توحي به هذه الصورة التبسيطية؟ بالطبع لا.
فهم لم يهملوا دراسة الفلسفة اليونانية، على العكس، ولم يهملوا العلم والعقل، على العتم تاحذف تماماً. وقس على ذلك بعض الفلاسفة المسيحيين الذين ظهروا في أوروبا بعد ان ترجموا أعمالهم وبنوا عليها.
وبالتالي فالعصور الوسطى لم تكن كلها ظلامية، وانما كانت فيها بعض المنارات، وبقع الضوء. ولكنها بشكل عام لم تكن مستنيرة. فاستنارة بعض العباقرة لا يعني استنارة عموم الشعب.
ثم يردف المؤلف قائلاً: ولكن عودة مفكري عصر النهضة إلى الماضي البعيد، وإلى فلاسفة اليونان والرومان وأدبائهم لا تعني مجرد العودة إلى الوراء ونسيان، الحاضر والمستقبل. فالواقع انها كانت عودة خلاقة لتغيير الحاضر أو لتجديد الحياة الحاضرة بكل جوانبها.
وهنا تكمن ابتكارية عصر النهضة وحداثته.
فقد كان عودة إلى الوراء من أجل التقدم إلى الأمام، والواقع ان التحولات الفكرية التي حصلت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر في أوروبا مرتبطة بثلاثة أشياء: أولها الإصلاح الديني الذي حصل في النصف الأول من القرن السادس عشر على يد مارتن لوثر. وثانيها الحركة الإنسانية النهضوية التي تمثلت بالعودة إلى الآداب القديمة، آداب اليونان والرومان وترجمتها.
وثالثها الاكتشافات العلمية الكبرى التي حصلت في ذلك العصر على يد كوبر نيكوس وسواه. والواقع ان أولى العلائم والبشارات على ظهور عهد جديد للفكر والسلوك انبثقت في ايطاليا منذ نهاية القرن الرابع عشر وبداية القرن الخامس عشر. ويمكن ان نضيف اليها الاكتشافات الجغرافية وتحسن الأوضاع الاقتصادية.
وقد انعتم تاحذف كل ذلك على الفكر. فنقد ارسطو الفلسفة السكولائية كان عاماً شاملاً. وكان من اكبر نقاده الفيلسوف النهضوي الايطالي لورنز فالا (1407 ـ 1457). ومعلوم ان ارسطو كان يسيطر على الفكر الأوروبي منذ أن تبنته الكنيسة المسيحية وقدمت تركيبة توفيقية تصالح بين فلسفة وبين العقيدة المسيحية.
ولذلك راح فلاسفة عصر النهضة يهتمون بأفلاطون أكثر من ارسطو من أجل تحجيم هذا الأخير. ولهذا السبب انشأ الأمراء الايطاليون الأكاديمية الافلاطونية للمفكرين النبلاء. وسلموا مقاليدها لمارسيل فيشان المذكور سابقا. وكان أول مترجم لأعمال أفلاطون. وكانت الفلسفة الايطالية مليئة آنذاك بالشخصيات الإبداعية.
وفي خضم هذا الإبداع والابتكار ظهر غاليلو (1564 ـ 1642) الذي شكل الأسس الراسخة للعلم الحديث: أي علم الفيزياء والفلك والرياضيات. ولولا ثورته العلمية لما كانت كل هذه الحداثة التي نشهدها اليوم. ولهذا السبب نقول بأن عصر النهضة شكل خطوة كبيرة إلى الأمام.
ومن أهم فلاسفة عصر النهضة الذين ساهموا في تشكيل الحداثة نذكر نقولا ميكافيلي (14691527) الذي اشتهر بكتاب: الأمير وهو الذي أسس علم السياسة بالمعنى الحديث للكلمة. نقصد بذلك أنه أسس الواقعية السياسية التي خلع اسمه عليها فأصبحت تدعى بالميكافيلية. ولكن الكلمة اتخذت معنى سلبيا في الاستخدام الشائع لأنك عندما تقول عن شخص بأنه ميكافيلي فكأنك تقول بأنه وصولي، انتهازي.
ولكن هذا ليس صحيحاً في الواقع، او قل ليس كاملاً لأن نظرية ميكافيلي عن السياسة أوسع من ذلك وأكثر تعقيداً. ومن كبار فلاسفة عصر النهضة الذي مهددا للحداثة يمكن ان نذكر جيوردانو برينو (1548 ـ 1600) الذي انتهى نهاية مآساوية. فقد حرقته محاكم التفتيش لأنه شكك ببعض العقائد المسيحية ولأنه تبنى النظرة العلمية للعالم والكون.
وكان أكبر فيلسوف ايطالي في عصره. كان هذا المفكر يقول بأن معرفة الكون هي هدف الحياة الفلسفية. وكان يقول أيضا بأن هذه المعرفة غير ممكنة الا عن طريق العقل والتجربة العملية المحسوسة. لهذا السبب اعتبره هيغل احد مؤسسي الفلسفة الحديثة ثم انتقلت النهضة الفلسفية إلى خارج ايطاليا: أي إلى البلدان الأوروبية الأخرى.
ولكن ذلك استغرق وقتاً طويلاً في الواقع. فانتشار النهضة في فرنسا، وانجلترا، وهولندا، وألمانيا كان متأخرا بالقياس إلى ايطاليا حيث ظهرت لأول مرة. وذلك لأن التعليم القروسطي السكولائي كان مهيمنا على العقول. وبالتالي فالتفكير الليبرالي الحر لم يظهر الا بصعوبة هناك. وقد ظهر في البداية على أيدي الكتاب والعلماء من أمثال: ايراسموس، رابليه، مونتيني، كوبر نيكوس، كيبلر.
[b]