د. سليمان الأزرعي
عندما نتذكر روّادنا ، نتذكر "القافلة المنسية" - كما أسماها البدويُّ الملثم يعقوب العودات - نتذكر أولئك الذين عمّقوا ملامح الحركة الفكرية والعلمية والأدبية في الديار الأردنية منذ قديم الحقب وإلى اليوم.
وعندما يُذكر الكاتب الروسي الإنساني الكبير "تولستوي" ، ويذكر أبو العلاء المعري الشاعر والفيلسوف ، أتذكر أديب عباسي.. أتذكره تماماً ، على اختلاف الديار والحقبة الزمنية بين عباسي والمعري ، وبينه وبين تولستوي وغيرهم ممن دخلوا حالة التسامي الكلي بحثاً عن الانعتاق من معطيات زمنهم وضغوطاتها واشتراطاتها.
لم أعرف في حياتي الثقافية والمعرفية علمانياً زاهداً شديد الوفاء لأفكاره ومعتقداته العلمية ، ويمتلك كل ذلك الحرص على التطابق في حياته بين ما يؤمن به وبين ما يفعل.. بين ما يقبل لنفسه وما يشترطه على الآخرين كما هو أديب عباسي. إنه حالة يندر تكرارها في زمن واحد وفي مكان واحد. ولمن لا يعرف ، فقد ولد أديب عباسي في بلدة الحصن ، مطلعَ القرنً العشرين ، وعاش حتى نهاية العقد الأخير من ذلك القرن. عاش حوالي قرن من الزمن قضى نصفه في معركة الامتلاء المعرفي العلمي والثقافي ، ونصفه الآخر في الزهد والترفع وخوض معركة إثبات استقلالية الإنسان ، وتوكيد قدرته على التسامي عن احتياجات عصره ، وتحقيق انعتاقه وجموحه واستشرافه كلما ترفع عن كل ما يزري ببشريته ، ويحط من كرامته بوصفه بشراً مطلقاً في الزمان والمكان.
كان أديب عباسي أنهى دراسته الأولى في مدارس بلدة الحصن ، ثم اختير - من بين زملائه - متفوقاً لإتمام دراسته في القدس ، وبعدها في الجامعة الأمريكية في بيروت ، حيث درس الاقتصاد العالمي وانعطف ، من بعد ذلك - مجبراً - لدراسة الفلسفة والآداب العالمية بقرار من إدارة الجامعة ، وكان يلقب آنذاك بفأر المكتبة الذي يلتهم الكتب على اختلاف ما فيها.
حينما عاد عباسي إلى شرق الأردن في الثلاثينيات من القرن المنصرم عمل مدرساً للفلسفة والآداب في الحصن والسلط وإربد. لكن نزعته العلمانية وضعته في حالة اشتباكية مع محيطه العلمي والاجتماعي المحافظ ، إضافة الى سلطات الانتداب ، فآثر العزلة حتى نهاية حياته.
عاش عباسي في 'العَقْد' (وهو بيت جده المعروف في الحصن) ، والذي تحوّل ، في ما بعد ، متحفاً خاصاً به وبتراثه الأدبي والعلمي ، حيث ترك إحدى وتسعين مخطوطة في الشعر والأدب والفكر والثقافة والنظريات العلمية باللغات: العربية ، والإنجليزية ، والفرنسية.
في ثلاثينيات القرن العشرين ، دخل عباسي حالة اشتباك نقدية مع عباس محمود العقاد على صفحات مجلات العصر: 'المقتطف' ، و'الهلال' ، و'المنهل' ، كما أذاع نظرياته وتبصُّراته العلمية المعارضة لأينشتاين ، ورؤاه في الحياة ونشأة الخلق على الكرة الأرضية ، مؤكداً أن الحياة الجديدة على الأرض سوف تُستأنف مجدداً من القطب الشمالي بعد أن تنتهي حول المدارين.. إضافة إلى غيرها من الرؤى العلمية والتبصرية المادية الديالكتيكية.
لقد زهد أديب عباسي في كل شيء ، ومارس حياة مستقلة خارج الوظائف والمناصب وأشكال التواصل. ومارس حياة أهّلته للخلاص من ضغوطات أية جهة عقابية تتطلب كُلفة الولاء ـ كائناً من كان مصدرها.
حيت استأنفت زياراتي له عام 1974 ، وكنت عائداً للتوّ من الجامعة ، كان عباسي ما يزال يمارس حياته المستقلة: يعيش على أبسط مقومات الحياة ، يرفض بشراسة أية مساعدة من أهل أو جوار.. كان يجلب كميات من البطاطا والخبز التي يجففها ألى أقصى مدى ، ثم يبدأ بتأهيلها مجدداً على طريقته لتعود صالحة للغذاء ـ ولذلك قصة تطول ـ وكان ما يزال يعيش على السراج والشمع ، ولم يعرف بيته الكهرباء إلا بعد ذلك التاريخ.
وحين سألته عن حياته من دون ضوء ، روى لي قصة حدثت معه عام 1957 ، حيث كسرت القطة سراجه المنزلي وجاءه - كالعادة - أحد شباب البلدة من طلبة الثانوية في إربد يسألونه عما يحتاجه من المدينة فأعطاه أحد عشر قرشاً لجلب سراج جديد. قال لي أديب عباسي: لا زلت في انتظار عودته.. وأعيش من دون سراج،.
دُهشت وتذكرت مصباح 'ديو جينس'. لم يكن عباسي يعرف أن ذلك الشاب قد اقتيد في تلك الليلة إلى رحلة صحراوية نحو الجفر امتدت عشر سنوات.
قال لي عباسي: لقد شعرت ، أول الأمر ، بتغير جوهري في حياتي.. ولكنني ، مع الأيام ، برمجت أموري على أن يومي ينتهي مع حلول الظلام. ومن يومها أصبح صًبْيةُ الحصن يرون أديب عباسي وهو يَجلس في باب العقد ، ويحدق في السماء ، ويرقب حركة النجوم والكواكب حتى أخريات أيامه.
عندما حضرته الوفاة ، كنت في زيارته في المستشفى. وكان ذرّف على الخامسة والتسعين. كان يقظاً يتحدث عن الكون والثقافة والحياة. لم يتغير عليه شيء. ظل عقله وقاداً حتى اللحظة الأخيرة ، وظل علمانياً شجاعاً واثقاً في أفكاره.